في عالم يتسارع فيه كل شيء، أصبح السؤال الأبرز الذي يطرحه الكثيرون: من يصنع الوعي في عصرنا هذا؟ هل ما زالت العقول الكبيرة من المفكرين والكتاب هي التي تحدد مسارات الفكر وتشكل الرؤى كما كان الحال في العصور السابقة؟ أم أن هناك أطرافاً أخرى، قد تكون أكثر تأثيراً في تشكيل الوعي الجمعي للشعوب في هذا العصر الذي تتداخل فيه أدوات الإعلام والسلطة وتكنولوجيا التواصل بشكل غير مسبوق؟
كانت العصور السابقة تزخر بمفكرين عظام، يتخذون من الكتابة والفكر وسيلة لصناعة الوعي. هؤلاء المفكرون، من خلال محاضراتهم وكتبهم ومناظراتهم، كانوا المصابيح التي تُضيء دروب الأجيال. كان فكرهم يشكل الأساس الذي يُبنى عليه وعي الأمة. في ذلك الزمن، كان المبدع يواجه ظروفاً صعبة، سواء من خلال الحظر أو التضييق أو حتى السجن، لكن صوته كان يظل في قلوب الجماهير. كانت أيديهم مشغولة بالقلم، وعقولهم مشغولة بتوجيه الأمة نحو المستقبل.
في عصرنا الحالي، لم يعد من يصنع الوعي هم الكتاب والمفكرون ولا النخب، فقد بدأنا نرى تغييرات كبيرة في المشهد. يمكن للعديد من الشخصيات المؤثرة في هذا العصر أن تتحكم في صناعة الوعي بطرق مختلفة.
الدين، وما يحمله من رسائل أخلاقية وروحية، كان له تاريخ طويل في توجيه الوعي الجمعي. لكن في هذا العصر الذي بات فيه الدين أداة قابلة للتوظيف من قبل جماعات كثيرة، بدأ البعض يستغل الدين في تشكيل الوعي على أساس التوجهات السياسية والأجندات الخاصة، لا المعتقدات الدينية. ولكن هل أصبح هذا الوعي أكثر عُمقاً، أم أنه أصبح أداة توجيهية تتلاءم مع سياسات وتوجهات معينة تُستخدم لتوجيه الجماهير نحو مصالح وأهداف لا علاقة لها بالدين؟
في خضم هذا كله، يبرز نوع آخر من صانعي الوعي، وهم رجال الدولة. هؤلاء لا يقتصر دورهم على تنفيذ السياسات فقط، بل هم جزء من عملية صناعة الوعي. حكومات اليوم باتت تدرك جيداً أهمية الوعي في صياغة السياسة العامة، وأصبحت تعتمد بشكل أساسي على المحتوى الذي يتم إنتاجه بهدف خلق ثقافة تنعكس على المجتمعات. من خلال برامج وخطط سياسية مدروسة، تستخدم الدول الوسائط الحديثة لترسيخ مفاهيم تتماشى مع سياساتها الداخلية والخارجية، وتخلق صوراً ذهنية يمكن أن تسيطر على العقل الجمعي. قد يقول البعض إن هذه فكرة قديمة، عبّر عنها الكاتب البريطاني جورج أورويل في رواية (1984) الشهيرة. هذا صحيح بشكل من الأشكال.
مع هذه الصور المتوالية، ظهرت في العصر الحديث فئة أخرى يمكنها التأثير بشكل غير مباشر، ولكن قوي. هؤلاء هم المؤثرون في وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يمتلكون القدرة على السيطرة على الوعي الجمعي بطرق مبتكرة وسريعة.
إذ بينما كان المفكرون في العصور السابقة يواجهون تحديات فكرية وضغوطاً مختلفة، يجد المؤثرون اليوم أمامهم جمهوراً ضخماً، يستهلك محتواهم في لمح البصر. يخلق هؤلاء المؤثرون تأثيراً هائلاً في مجالات متعددة، بدءاً من الموضة والجمال، وصولاً إلى السياسة والفكر.
بينما قد يكون العديد منهم بعيداً عن العمق الفكري أو البحث العلمي، إلا أن أسلوبهم السهل والمباشر يجعلهم قادرين على جذب الانتباه وتحقيق تأثيرات قوية في شباب اليوم.
في عصرنا هذا، أصبح من المستحيل تحديد جهة واحدة لصناعة الوعي، كما كان الحال في العصور الماضية. الوعي اليوم تتم صناعته في صوامع متعددة، حيث يشترك كثيرون في صناعة هذا الوعي بطرق وأدوات وأساليب مختلفة.
أصبح الجميع اليوم جزءاً من عملية صنع الوعي، ولكن هل تنتج لنا هذه العملية وعياً جمعياً ناضجاً، أم أنها مجرد أيديولوجيات مسيسة، وأصوات مدفوعة الأجر، تُعيد تشكيل الحقيقة بما يتناسب مع مصالح أيديولوجية أو سياسية أو غيرها؟
في نهاية الأمر، هل نحن اليوم أكثر وعياً من الماضي، أم أن الوسائل الحديثة حولت الوعي إلى شيء مرن ومتعدد، يصعب وضعه في قالب واحد؟ ربما يكون للجواب علاقة بكيفية تعاملنا مع هذه الأدوات الجديدة في تشكيل الوعي.
المؤكد هو أن صناعة الوعي لم تعد اليوم حكراً على جهة واحدة أو فئة معينة. لقد أصبحت عملية أكثر تعقيداً وتداخلاً، بحيث تتقاطع فيها أصوات كثيرة لم تكن معروفة من قبل.